رمضان يحزم حقائب رحيله
رمضان ضيف عزيز مرتحل ، يحل في مرابعنا اليوم ، ثم يحزم حقائبه ويسافر غداً ، ساعاته ثمينة ، ولياليه مليئة زاخرة ، والكيّس الذي لا يدع ساعات الليل وأطراف النهار إلا ويجعلها مطية طاعة ، ومركب عبادة ، فبادروا إلى اغتنام نفحات رمضان ، ولا تلهينكم الحياة الفانية ، ولا تفتنكم زينتها الزائلة ، ألا يكفينا ما فرطنا في أشهر السنة الأخرى ؟!!
أفلا يستحق منا شهر العتق والغفران أن نحسن إكرامه وضيافته ؟!!
فنملأ خزائن ليله ونهاره بطاعة الرحمن تبارك وتعالى ، ليشهد لنا يوم القيامة .
فيا من ضيع عمره في غير الطاعة..
يا من فرط في شهره بل في دهره و أضاعه ..
يا من بضاعته التسويف و التفريط و بئست البضاعة ..
يا من جعل خصمه القرآن و شهر رمضان .. كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة ؟!
أيها الأحبة:
إن طول الأمل يؤدي بالإنسان إلى تسويف الأعمال الخِيرة ، وتأجيلها بدعوى أن العمر طويل ، والتسويف بالأعمال الصالحة في شهر رمضان مفسدته كبيرة ، وجريرته عظيمة ، ومصيبته خطيرة ، وصدق من قال عن التسويف أنه من أكبر جنود إبليس ، و التسويف عادة استحكمت في نفوس كثير من الخلق ، وهي عادة مهلكة يغذيها شعور غبي ، لأن التسويف تكتنفه آفات خطيرة ، من أهمها :
الآفة الأولى: أن المسوف لا يضمن أن يعيش إلى الغد ، وما أكثر موت الفجأة في أيامنا هذه .
الآفة الثانية: أن المسوف ، وإن بقي إلى الغد ، فلا يأمن المعوقات من مرض طارئ ، أو شغل عارض ، أو بلاء نازل ، إلى غير ذلك من الصوارف الكثيرة .
الآفة الثالثة : أن المسوف ، يتجاهل أن لكل يوم عمله الخاص به ، ولكل وقت واجباته المختلفة ، فليس هناك وقت فارغ من العمل المتجدد .
الآفة الرابعة : أن تأخير المسوف للطاعات وفعل الخيرات ، يجعل النفس تعتاد تركها ، والعادة إذا رسخت أصبحت طبيعة ثانية يصعب الإقلاع عنها ، حتى إن المرء ليقتنع عقلياً بوجوب المبادرة إلى الطاعة ، وعمل الصالحات ، ولكنه لا يجد من إرادته ما يعينه على ذلك ، بل يجد تثاقلاً عن العمل ، وإعراضاً عنه ، وإذا خطا يوماً إليه خطوة كان كأنما يحمل على ظهره جبلاً ، والنفس إذا ألِفت ارتكاب المعاصي ، والتقلب في الذنوب والشهوات ، فإنه يعسر فطامها عنها ، لأنها كل يوم تزداد شغفا بها ، وملاصقة لها ، ويزداد حجم المعصية في القلب حتى يغشاه سوادها ، ويعمه ظلامها .
ورحم الله ابن الجوزي إذ يقول : ( أيها الناس إن شهركم هذا قد انتصف ، فهل فيكم من قهر نفسه وانتصف ، وهل فيكم من قام فيه بما عرف ، وهل تشوقت هممكم إلى نيل الشرف ، أيها المحسن فيما مضى منه دم ، وأيها المسيء وبخ نفسك على التفريط ولم ، إذا خسرت في هذا الشهر متى تربح ، وإذا لم تسافر فيه نحو الفوائد فمتى تبرح ، كان قتادة يقول : كان يقال: من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له ) .
لقد أصبحت أوقاتُ كثير من الناس اليوم في رمضان بين بطالة وغفلة ، وشرور ومعاصٍ ، وإسراف في المباحات ، واجتماعات لا فائدة منها ، فنهارهم كسل ونوم ، وليلهم سهر ولهو بالباطل ، فإذا سألت أحدهم لماذا فعلت ذلك ؟
أجابك ببرود : أضيع الوقت ، وآخر يجيبك : ماذا نفعل نقتل الوقت ، كأن الوقت أصبح عدواً له فهو في حرب معه ليقتله ، وما علم المسكين أنه يقتل نفسه .
كيف يستشعر أولئك روح الصوم ونفحاته ؟
مادام أحدهم يقضي نهاره في النوم ، أم كيف يستلذ أحدهم بحلاوة المناجاة الربانية ما لم يعش ظمأ النهار وجوعه ، إذ أن من مقاصد الصيام أن يجوع الإنسان ويعطش ، حتى تخمد ثورة شهواته ، ونار نزواته ، وحتى يستشعر الروابط الإيمانية بينه وبين فقراء المسلمين الذين لا يجدون ما يكفيهم ، ثم بالله أخبروني كيف يدرك أولئك القوم الحكمة من الصوم ؟
وكيف هو ذكرهم لله ؟
بل أين اغتنام بركات هذا الشهر المبارك في تصرفاتهم اليومية ؟
( يا ذا الذي ما كفاهُ الذنبُ في رجب ... حتى عصى ربه في شهر شعبانِ )
( لقد أظلك شهر الصوم بعدهما ... فلا تصيره أيضا شهر عصيان )
( و اتل القران و سبح فيه مجتهدا ... فإنه شهر تسبيح و قرآن )
( واحمل على جسد ترجو النجاة له ... فسوف تضرم أجساد بنيران )
( كم كنت تعرف ممن صام في سلف ... من بين أهل و جيران و إخوان )
( أفناهم الموت و استبقاك بعدهم ... حيا فما أقرب القاصي من الداني )
( و معجب بثياب العيد يقطعها ... فأصبحت في غد أثواب أكفان )
( حتى متى يعمر الإنسان مسكنه ... مصير مسكنه قبر لإنسان )
اللهم لا تجعلنا من الغافلين ، وأكرمنا بمغفرتك ورضوانك في هذا الشهر الكريم ، اللهم تقبل منا صيامه وقيامه ، وتجاوز عنا بمنك وكرمك يا ذا الجلال والإكرام .
المصدر: موقع فضيلة الشيخ أ. د. خالد بن منصور بن عبدالله الدريس