اللهم إني أشكوا إليك بثي وحزني

اللهم إني أشكوا إليك بثي وحزني

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لا تخلو هذه الحياة من مصائب ومحن تصيب هذا الإنسان، ومن ثم فلا يجد بدّ من شكواها ليخفف عن نفسه، والله يبتلي عباده ليسمع شكواهم إليه، إذ الشكوى إليه تحقيق للعبودية،يشكون ما أصابهم إلى ربهم فتعود عاقبة ذلك سكون القلب

وتفريج الكرب،قد جرت حكمته تعالى في عباده أنه خلقهم في كبد، في مشقة وابتلاء، فرماح المصائب على العباد مشرعة، وسهام البلاء إليهم مرسلة، ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم يضق العيش فيها على الأنبياء والأخيار، فآدم يعاني

المحن إلى أن خرج من الدنيا،ويعقوب يبكي حتى يذهب بصره،ومحمد عليه الصلاة والسلام يصابر الفقر،وهكذا الأنبياء والأولياء،فلا يخلو الإنسان في هذه الدنيا من الشدائد وضيق الأمور والمصائب والبلايا والمحن، فهذا مبتلى بفقد قريب

أو بموت حبيب وهذا بذهاب المال، وآخر بمرض خطير، وهذه مطلقة، وأخرى معلقة، وهذه لم تتزوج، وتلك عقيم لا تنجب، وهذا يتيم، وآخر فقير وهذا وهذا من أنواع البلاء في المال والنفس والمسكن والوظيفة والزوجة والولد، فإلى

من يرجع أصحاب المصائب وإلى من يلجأ أرباب النوائب، والإنسان أمام هذه البلايا يحتاج إلى الشكوى، والمكروب يستريح بالبث، والشكوى تخفف الهم،وتزيل الألم،والله عز وجل يبتلي عبده ليسمع شكواه وتضرعه وإلحاحه

ودعاءه،وقد ذم الله الذي لا يتضرع ولا يستكين وقت البلاء،فقال سبحانه(ولقد أَخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون)سورة المؤمنون،فإن الله يحب من يشكو إليه، ويظهر المسكنة والحاجة والشدة عنده،الأنبياء يبثون الشكوى

إلى الله،كان الأنبياء والرسل وهم خير الخلق إذا نزل بهم البلاء واشتد بهم الكرب، وعظمت المصيبة عندهم، لجأوا إلى الله وتضرعوا إليه وأظهروا افتقارهم إليه بالشكوى،فهذا أيوب ابتلاه الله بالأمراض، فلبث في بلائه ثلاث عشر سنة،

حتى رفضه القريب والبعيد،أيوب العابد الرّجاع إلى الله،الصابر،كان صاحب عبادة،وما نزل به ابتلاء وليس لذنوب أحدثها، فلما فهم بعض الناس من طول البلاء واشتداد المرض أنه لذنوب أحدثها حزن(وأيوب إذ نادى ربه أني مسني

الضر وأنت أَرحم الراحمين)سورة الأنبياء،وهكذا يشكو إلى الله ويرفع صوته بمناجاة مولاه، نادى ربه يشكو الحال،فإظهار البلوى والشكوى عند الله،وهو من العبودية،مسني الضر بأنواعه في جسدي، في مالي، في ولدي، آذتني

ألسن الناس،ارحمني فأنت أرحم الراحمين،وهكذا جاء اللطيف سبحانه وتعالى بالفرج وعبده لم يزد أن يقول،مسني الضر،ووصف خالقه بأنه أرحم الراحمين، ويونس عليه السلام لم يكن عنده من يشكو إليه إلا الله، لأنه محبوس في

بطن الحوت،وكان في حال من الأذى والضعف ،في ظلمات البحر والليل وبطن الحوت،فنادى في الظلمات(أَن لا إِله إِلا أنت سبحانك إِني كنت من الظالمين)سورة الأنبياء،وهكذا تتلمس في شكوى ذلك النبي معاني الضعف والمسكنة

والافتقار إلى الله،ولذلك جاءت النتيجة(فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين)سورة الأنبياء،


وهذا نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم،لما رفضه أهل مكة،القريب والبعيد وتآمروا عليه(وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك)

سورة الأنفال،أي،يحجزوك،إقامة جبرية في بيتك(ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك)سورة الأنفال،فذهب إلى أهل الطائف، فماذا وجد عندهم،كل رد سيء وسبوه وشتموه وآذوه وطردوه وأخرجوه،فلم يكونوا أحسن حالاً من أهل مكة،ذهب عليه

الصلاة والسلام يخفق برأسه من الهم ويسير على غير هدىً في الطريق، حتى وصل إلى قرن الثعالب (موضع بعيد خارج مكة)من الهم والغم الذي ركبه،فما نصره من يتمكن من نصرته لتبيلغ الدين ولا آووه، جاء في رواية الطبراني

في الكبير،قوله عليه الصلاة والسلام(اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي،إلى من تكلني،إلى بعيد يتجهمني،أم إلى عدو ملكته أمري،إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ

فلا أبالي،ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك) حسنه ابن كثير في تفسيره،

هذه فائدة الشكوى إلى الله،وعاقبة اللجوء إلى الله، فالله سبحانه وتعالى إذا فوض عبده الأمر إليه عصمه وقواه وصرف عنه السوء وآواه وسكَّن قلبه ونفسه وطمأنه، والإنسان وحده لا يستطيع أن يصارع الأحداث، ولا أن يقاوم الملمات،

ففيه ضعف وفيه عجز، فلا بد له من ركن شديد، لا بد أن يلجأ إلى ربه وأن يثق بمولاه، وأن يفوض الأمر إليه،وتلك قصة المشتكية إلى ربها(قد سمع اللَه قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إِلى اللَّه)سورة المجادلة،أتت النبي صلى الله

عليه وسلم،فجعلت تحاوره وتراجعه وتشكو زوجها،وتقول يا رسول الله،أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني، الآن أنا ألقى في الشارع بعد كل هذا المجهود وهذه الحياة،لا زوجة ولا مطلقة، بل معلقة،

فقالت(اللهم إني أشكو إليك)هكذا تقول أمام النبي عليه الصلاة والسلام،فالنبي عليه الصلاة والسلام،لم يكن عنده جواب، فأمرها بالصبر وأنه ابن عمك، ومحاولاً إبقاء الشمل ملموماً حتى يأتي الله بأمره،حتى النبي عليه الصلاة والسلام،ما

شكت إليه وإنما شكت إلى ربها من كمال إيمانها، وقوة توحيدها، فماذا كانت النتيجة،آيات تنزل وتقرأ إلى قيام الساعة ولا تخص تلك المرأة وحدها بل كانت فاتحة لحل القضية عند كل امرأة تقع في وضع مشابه، وتنزل الآيات( قد سمع الله

قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إِلى الله والله يسمع تحاوركما إِن اللَّه سميع بصير)سورة المجادلة،


فإذا ألمت بك ملمة،فارفع الكفين، فرفع الكفين فيه إظهار الافتقار والحاجة والطلب، وأظهر الانكسار والضعف والمسكنة،واعترف

بالذنب واعترف بالنعمة وسل حاجتك،تبرأ من حولك، وتبرأ من قوتك، وقل كما علمنا النبي عليه الصلاة والسلام(اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت) رواه أبو داود،وهو حديث صحيح،

وتيقن بأن الله أرحم بك من نفسك، وأرحم بك من أمك التي أنجبتك، وأن الشكوى إلى الناس لا تزيد المصاب إلا شدة وجزعاً، كالعطشان الذي يشرب ماء البحر فأنى يروى،قال عمر رضي الله عنه،ما في الشكوى،أي،إلى من حولك،إلا أن تحزن صديقك وتشمت عدوك،


اللهم إنا نسألك في ساعتنا هذه أن تغفر لنا ذنوبنا، وأن تجعلنا عندك بالمقام العظيم يا رب العالمين،
اللهم نسألك فضلك، اللهم ارحمنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنا، وزدنا ولا تنقصنا، وعافنا واعف عنا.

المصدر: الملتقى الجماهيري للشاعر محمد بن فطيس المري