لاشيء يُشبِه أن تواصِل حياتك في جُحرٍبينما العالم كُله ينهض ويُعمِّر عصراً ذهبيّ, صدقني يا بُني لاشي أشد ألماً من أن تشعُر بأن البشرية كلها تمشي إلى الأمام وتأخُذ دورها على هذِه الأرض وأنت مازِلت تقِف في آخر الطابور لاتحمِلُ رقماً حتى !
قال هذه الجُملة بصوتٍ مُرتفِع , مُسرِّحاً عينيّه في الفضاء كأنهُ يُنادي على الموت أن : عجِل , هلِكت والله العظيم !
تبدت الدهشة في عيّنيّ شعرتُ بأني صغير كَ نملة , يا الله كم كُنتُ ضئيلاً وهشاً أمام هَذا الشيخ العاجِز , والله ماتمنيّتُ إلا أن أتلاشى قبل أن تقع عينيّه عليّ , على عينيّ الحائرتين ووجهي الذي بدا مُصفراً كحبة قمح , أدرتُ ظهري له خشية أن تتعرى خلجات نفسي أمام ضعفَه .. وقُلتُ بصوتٍ بارِد : أترغبُ بشيءٍ ياعم قبل أن أرحَل ؟
أجاب سريعاً كأنما يُخبئ عبرات روحِهِ هو الآخر : لا , الله معاك .. وأظُنهُ قال : جزاكَ الله خير .
أسرعتُ حينها إلى الباب الحديّدي المأكولِ نصفه طأطأتُ هامتي وخرجت , وددتُ لو أبصِقُ على سيارتي البيضاء الفارِهة التي بدت كَ راقِصة تتمايلُ بِعُهرٍ أمام أنظار جُدران هَذا الحيّ الجائِع .
كم بدا منظري مُخزياً وأنا أمدُ يدي للعم الفقير بكيسيّن من الأرُز والخُضروات والفواكه وأدُس في جيبِه مبلغاً كريماً وأُطبطِب على كتفِه
ثُم أخرُج من منزِلِه رافِعاً طرف ثوبي كي لايتسِخ ومُستقلاً سيارتي التي تفوق سِعر منزِلِه ومنزِل جارِه أبوسعد وجارِه أبويحيى والدُكان الصغير الذي يقع آخر الشارِع وتفوقُ مع هَذا كُله سِعر " وانيت " صالح الحبشي ومُعداتِه الصدِئَة
كم بدوتُ مُتعالياً رُغم عطائي , كم بدوتُ مُقزِزاً و مُستفِزاً لِرغباتِهم النحيلة .
إستقليت سيارتي , أواري فيها عينياي ووجهي وإنفطارَ قلبي عن جعجعةِ الأطفال الصِغار , الذين تراصوا عند مدخل الحي يُحملِقون بأعينُهم في موكبِ الحياة الذي خصَّ خيراتُه بمنزلٍ واحد ورحل
كأنهم يُشييعون على مشارِف ترفي أحلامُهم العظيمة التي تساقطت كحبات الرطب , كالموتى الطيبين !
يصعُب عليّ الآن أن أواصِل يومي كمن لم يرى شيئاً كمن لايخُصه حال هؤلاءِ البشر , المحسوبون على العالم كعددٍ فقط لايُرى ولايُسمَع ولايُشم حتى !
كأنما حرامٌ على الحواس أن تخُصهم بـِ لفتة , كأنما خُلِقوا ليظلوا هكذا ! حسنات للبشر المُتغطرسين والمُذنبين أمثالي , كأنهُم خُلِقوا سُلماً نحو الجنة .. لنا نحنُ الذين لانعرف كيف هو شكلُ الإيمانِ بالله والتوسل لَه .. "أستغفُرُ الله "
في صباح الحياة التالية : إستيقظتْ مُتاخراً , كنستُ أضغاث الليلة الماضية وإرتديتُ ثيابي على عجل , حين وصلت إلى مقر عملي شعرتُ بأن ليسَ لي طاقة على العمل اليوم , ولجتُ إلى مكتبي فأخذتُ من الأوراق مايجِب أن أُنهيه هَذِه الليلة ثُم أغلقتُ المكتُب وغادرتُ المكان , كانت عقارب الساعة تُداعب العاشرة والنِصف صباحاً خرجتُ لا ألوي على شيء هائِمٌ على وجهي
ولاأشعُر برغبة أن أتناول إفطاري في المقهى القابِع خلفَ مكتبي مُباشرة , شعرتُ أني لاأقوى أن أُمارِس ماإعتدتُ ممارسته كل يوم , وكأن ماحدث البارِحة
قد هذبهُ القدر من أجلِ أن أخجل من رغباتي النهِمة التي لاتُبقي على شيء .
حينها إجتاحتني رغبة أن أزور العم مرة أُخرى , وأشاركُه الإفطار ومُتعة الحديث , توهجت هذِه الفِكرة في رأسي وفكرت كم من بهجةٍ سأجلبها له بهذهِ الزيارة .
وفِعلاً إبتعتُ لهُ من الإفطار مالذَ وطاب ووليّتُ وجهي شطر الحيّ , للوهلة الأولى شعرتُ أني أخطأتُ الطريقَ إليه , ثُم عُدتُ إلى الشارع الذي يسبِقُه بـ ثلاثة أعمال "حفرية مُتعطِلة "
شعرتُ بالتيه الواسِع الذي يسكُنني في هذه اللحظة , وللمرة الثانية شعرتُ أيضاً أني أخطأتُ الطريق , لا بل أضعتُه , وظللتُ أسير في دائِرةٍ مُفرغة لاتقود إلى شَيء
سألتُ بائِع الخُضروات الذي إفترش إحدى الأرصِفة
: هل يمكنك أن تُدلني على حيّ " اليمين " ؟
تفحصني بنظراتِه قبل أن يُجيب : أنا أقطن هُنا مُنذُ سنين لم يسبِق أن سمعتُ بِهذا الحي من قبل .
أخبرتُه أنهُ يجبِ إذاً أن يقطُن قرناً كي يسمع بِه .. وعُدتُ أهيمُ على وجهي , لايُعقل أن يختفي حياً كامِلاً بمنازِلِه العتيقة ودكاكينِه وسُكانه , مافتأتُ أسأل هذا وذاك , الجميع أنفى وجود حياً بهذا الإسم
كِدتُ أُجَن , أخذتُ أصِف حال الحيّ وأطفالِه , وأُشيرُ إلى نفسي : كُنتُ هُنا البارِحة أنا بِلحمي ودمي وولجتُ منزِل أحدهُم , ورأيتُه بعينياي هاتين ورأيتُ جموع الأطفال الصِغار , دلوني الآن عليه
, فقط دلوني !
يئِست , بائِت كُل تساؤلاتي ومحاولاتي بالفشَل , خجِلت من نظرات المارة المُشككة في صحة عقلي , فعُدتُ أدراجي ومازِلتُ أجد صعوبة في تصديق كُل هذا .
كم كان الأمس غريباً وكم كان اليوم أشد غرابة .
عندما دخلت منزلي , شعرتُ بحاجتي للنوم , أنهكتُ عقلي , أنهكتُ نفسي , فإستلقيت وسلمتُ نفسي للراحة والنوم العميق وولجتُ في غياهِب الحُلم حتى اليوم التالي .
إستيقظتْ مُبكراً , أخذتُ دُشاً منعشِاً وإرتديتُ ثيابي وخرجت .
شعرتُ حينها أن ثمة نور يتوهجُ في داخلي , شعرتُ برغبة مجنونة أن ألتقيني وأُصافحني , أن أُصلي حتى تغشى نفسي أو يُغمى علي
شعرتُ أني لستُ مُحتاجاً لحيٍّ وشيخٍ فقير وأطفال , شعرتُ أن أقصى ما أحتاجُه هي : نفسي , لِذا لاحاجة لي أن أبحث عن حيٍّ آخر يقصِمُ قلبي ويسرِقُ بهجة يومي وزهو ترفي
ثُم يختفي في اليوم التالي , لستُ مُذنباً لأني غنيّ بمالٍ زائِل وحياةٌ هي للفناء , هو الله " يرزقُ من يشاء ".
وصلتُ المقهى , آثرتُ أن أحتسي فنجان قهوة ساخِن في هذه الساعة المبكِرة على أن أُباشِر عملي وأفقِد لِذة الصباح الأولى .
طلبتُ قهوتي , وفي نشوتي هذِه أخرجتُ من حقيبتي قُصاصة بيضاء وكتبتُ :
"أنا أُشارك البشرية في تعميرِ عصرٍ ذهبي , إذاً أنا في أول الطابور"
|